السفر منفردًا
يُخيل الى كثير من الناس أن السفر بمفردك مجرد مغامرة مليئة بالإثارة والمناظر الخلابة، لكن الحقيقة أعمق بكثير من هذا التصور السطحي. فالسفر الفردي ليس مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل هو عبور داخلي نحو الذات، رحلة تكشف لك ما لم تكن تراه وأنت محاط بالاعتياد والضجيج.
في كل مدينة جديدة، تشعر وكأن الحياة تنبع من داخلك. تضحك من قلبك مع أشخاص لا تعرف أسماءهم، وتبني لحظات تختزنها روحك إلى الأبد.
لكن بين كل تلك اللحظات، يتسلل إليك شعور غريب… اشتياق لوجه مألوف، لصوت تعرفه، لعين تفهمك دون أن تشرح.
هكذا يمضي السفر، خليط عجيب من الدهشة والوحدة، من الانبهار والحنين.
تصبح أكثر يقظة، حيث تقرأ نظرات العابرين، وتفهم نواياهم دون أن تُقال.
تشعر بالخطر قبل أن يصل، وبالطمأنينة قبل أن تُمنح.
الحدس يتحول من شعور داخلي إلى رادار يحميك في كل لحظة.
تكتشف أن بعض الغرباء يتركون فيك أثرًا يفوق أثر الأقربين.
شخص التقيت به مصادفة في نزهة أو جلسة قصيرة، قد يمنحك شعورًا بالانتماء لم تشعر به من قبل.
بعض اللقاءات لا تحتاج وقتًا طويلًا لتصبح خالدة.
تتعلم أن تفرح بأبسط الأشياء.
كوب من الشاي تعده بنفسك، لحظة صمت في شرفة مسكنك، حديث بلغتك الأم بعد أيام من الغربة…
كل هذه التفاصيل الصغيرة تصبح أثمن من كل ما ظننته عظيمًا.
ثم تكتشف أن الخير ما زال موجودًا في هذا العالم.
من يساعدك دون مقابل، من يبتسم لك دون سبب، من يشاركك طعامه رغم أنه لا يعرفك…
السفر يعيد إليك إيمانك بالناس، وبأن الطيبة لم تندثر كما ظننت.
لكن العودة…
العودة قد تكون الأكثر غرابة.
كل شيء في مكانه، لكنك أنت لم تعد كما كنت.
تدخل بيتك وتشعر وكأنك تزوره لأول مرة.
لأنك تغيرت، ونضجت، ووسعت مداركك.
وما كان مألوفًا لم يعد يلامس روحك كما كان.
السفر الفردي ليس رفاهية، ولا تجربة للصور فقط، بل هو امتياز عظيم.
امتياز أن ترى العالم بعينيك، وأن ترى نفسك كما لم ترها من قبل.
أن تصمت لتسمع صوتك، وتبتعد لتعرف من يستحق القرب.
هي رحلة في الخارج، لكنها في الحقيقة رحلة إلى الداخل، قد لا يقدر على تحملها الكثيرون.
تعليقات
إرسال تعليق