لعنة الوعي

 ما أكتبه لكم ليس مجرد خاطرة، بل حقيقة مررت بها شخصيًا. ففي لحظة تفكير كنت أجلس وحيدًا، أُفكر: لماذا أنا أنا؟ لماذا أنا هنا بهذا التفكير وهذا الانتماء؟ هل لأنني مُقتنع بما أنا عليه؟ أم لأنني نشأت عليه دون أن أملك خيارًا؟ تساءلت كثيرًا، ولكنني كنت أخاف من الغوص العميق في هذا النوع من الأسئلة، لأنها تنتزع عنك جلدك الأول، وتجرّدك من حقيقتك التي رُسمت لك منذ الطفولة.

ولكن عندما رفعت رأسي ونظرت حولي إلى المجتمع الذي أعيش فيه، إلى الأفكار التي علاها الصدأ، إلى الحوارات الباهتة التي تدور بجواري دون روح أو هدف… شعرت أنني أغرق في شيء أعمق من مجرد حيرة. تساءلت مرةً أخرى، ولكن هذه المرة لم أهرب. تركت نفسي تغوص، وبدأت رحلة البحث عن الجواب. رحلة تشبه لعنة الاستيقاظ، لا أستطيع أن أصف تفاصيلها بالكلمات، لكنني أستطيع أن أخبركم أنني في لحظة ما، سقطت أرضًا، أبكي بكاءً لم أبكه على ميتٍ من قبل.

بكيت كأنني فقدت نفسي. بكاء من خرج من نعيم الجهل إلى جحيم الوعي. ذلك البكاء لم يكن لحظيًا، بل نتيجة تراكمات من القراءة، والمعرفة، والتجارب، والأسئلة التي لم أجد لها أجوبة تُرضي عمقي. ما زلت أذكر عيني الحمراوين، وصوتي المبحوح من شدة البكاء. نظرت إلى نفسي في المرآة وقلت: هل هذه هي الحقيقة؟ هل كنت مخدوعًا كل هذا الوقت؟ هل اكتشفت حقيقتي في هذه الحياة أم أنني فقط خرجت من قيدٍ إلى قيدٍ آخر بشكل مختلف؟ هل أنا الآن إنسان حر؟ أم فقط تائه أكثر من أي وقت مضى؟

أسئلة كثيرة، أجوبتها فتحت لي أبوابًا ما كنت أظن أنني سأراها. لم أعد أرى العالم كما كان. لم أعد أرى الناس كما كانوا. نظراتهم، تصرفاتهم، أحاديثهم… كلها أصبحت باهتة، مُفرغة، مُكررة، كأنني أنظر إلى عرض مسرحي قديم لا أحد يجرؤ على تغييره. لم أعد أتأثر بما كنت أتأثر به سابقًا. هل أصبحت بارد المشاعر؟ أم أنني فقط أصبتُ بما يسمونه “صدمة الوعي”؟ حياتي كلها تغيرت منذ تلك اللحظة.

كلما ضاقت بي الأرض، هربت إلى السماء. ركبت الطائرة كي أبتعد. كي أتنفس في عالمٍ بعيد عن هذه الضوضاء، أبحث عن شيء مختلف، عن عقول تشاركني الأسئلة لا تُسكتها، عن بشر لا يكررون ما تعلموه أو سمعوه من مجتمعهم. لكن كلما عدت، اشتقت للرحيل من جديد. اشتقت للغربة، لأنها كانت أقل غربة من الوطن. لم أعد أشتاق لمكاني، ولا لوجوه المجاملات، ولا للعادات التي أصبحت أشعر أنها تُقيدني أكثر مما تُعبر عني. أصبحت أبحث عن لقاء العقول، عن الاختلاف، عن الإنسانية الحقيقية، تلك التي وجدتها في السفر، لا في المجالس التي يُمارس فيها قتل الروح باسم العادة، وباسم “كذا تربّينا”.

وحينها فقط، عرفت أنني لم أعد أسافر حبًا في العالم، بل هروبًا من عالمٍ كنت أحسبه لي. هروبًا من مجتمعي، من فكرٍ لم أعد أتحمّله، من تفاهات أصبحت لا تليق بعقلي ولا بقلبي.

نعم… إنها لعنة الوعي. لعنة تُنير عقلك لتحرق قلبك، تفتح لك أبوابًا لا تُغلق، وتجعلك ترى ما لا يُمكنك أن تتجاهله بعد الآن.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا نُقدّس الموروث؟

العين لا ترى مالا يدركه العقل

عقلك مُقَيَّد! أتعلم ذلك؟