وهم الاكتئاب

 نعيش في عالم مليء بالتناقضات، كلما زادت الفجوة بين حقيقتنا وبين ما نحاول أن نظهره للآخرين، كلما شعرت أرواحنا بضغط الفراغ الذي يخنقنا.


هذا الشعور، الذي يُشار إليه كثيرًا بالاكتئاب، ليس مرضًا بقدر ما هو انعكاس لواقعنا، مرآة تكشف لنا ما ينقصنا.

فعندما نبتعد عن ذواتنا الحقيقية، محاولين تلبية توقعات المجتمع أو تقديم صورة مزيفة، نخلق فجوة داخلية عميقة. هذه الفجوة ليست مجرد شعور بالفراغ، بل هي انقطاع بين أفعالنا ورغباتنا، بين حقيقتنا وأكاذيبنا.


الضغط للحفاظ على هذه الصورة المزيفة يرهق النفس، ويترك شعورًا عميقًا بعدم الرضا والاضطراب.

ومع الوقت، تتفاقم هذه الفجوة، لتتحول إلى حالة من الحزن واليأس والإحساس بعدم المعنى.


حينها يهرع الكثيرون لتسمية هذه الحالة بالاكتئاب، غالبًا مع نسبها لاختلالات كيميائية أو ظروف خارجية.

لكن ماذا لو كان السبب الجذري أعمق من ذلك، حياة بلا وضوح أو أصالة أو أهداف ذات معنى!


الشخص الذي يفتقر إلى الهدف يشعر وكأنه تائه في بحر لا نهاية له. الأهداف توفر الاتجاه، وتحقيقها يمنح الشعور بالاكتفاء. بدونها، تصبح الحياة دورة مملة من الوحـدة، مما قد يؤدي إلى مشاعر تُفسر غالبًا على أنها اكتئاب.


فالهدف يعمل كبوصلة تربطنا بشيء أكبر. عندما نستيقظ كل يوم ولدينا مهمة، مهما كانت صغيرة، فإنها تدفعنا للنمو والتكيف وإيجاد الفرح في الرحلة.

أما من يعيشون بلا هدف، فإنهم غالبًا عالقون في دوائر من الفراغ. يشعرون وكأنهم مشاهدون في حياتهم، يراقبون دون مشاركة، موجودون دون أن يعيشوا.


على عكس الاعتقاد السائد، ففي إيماني التام أن الاكتئاب ليس مرضًا مزمنًا يحتاج إلى علاج طبي دوائي.

ففي كثير من الأحيان، هو حالة تنبع من حياة غير مكتملة؛ نقص في الروابط ذات المعنى، أو غياب الوعي الذاتي. فهو ليس شيئًا خارجيًا يحدث لنا، بل هو رد فعل داخلي على اختياراتنا، وعلى الحياة التي نعيشها، وعلى الفراغ الذي نسمح له بالتغلغل في أعماقنا.


هذا الإدراك يمنحنا القوة. إذا كان الاكتئاب حالة، فيمكننا الخروج منها. المفتاح يكمن في تحمل مسؤولية حياتنا. من خلال الاعتراف بالفجوة، والعمل الفعلي على تقليصها، يمكننا البدء في رحلة الاكتفاء.


من السهل الوقوع في فخ الضحية، وإلقاء اللوم على الظروف أو الآخرين في شعورنا بعدم الرضا. لكن النمو الحقيقي يبدأ بالمحاسبة. أنت المهندس الوحيد لحياتك. الفراغ الذي تشعر به ليس لعنة، بل إشارة.

إنه دعوة من عقلك وروحك لإجراء تغيير، للبحث عن هدف، وملء أيامك بالمعنى.


فلا قوة خارجية يمكنها إنقاذك، لا دواء، ولا علاج يمكنه أن يصنع لك هدفًا. هذه أدوات، وليست حلول.

العمل الحقيقي يأتي من الداخل. والاستعداد للتغيير، يتطلب أن تواجه مخاوفك، وتتخلى عن ادعاءاتك، وتعيش بصدق.


في النهاية، الاكتئاب كما يشعر به الكثيرون ليس مرضًا بحاجة إلى علاج، بل حالة بحاجة إلى فَهْم.

إنه طريقة العقل للإشارة إلى أن هناك شيئًا مفقودًا، ودعوة للبحث عن الهدف والاكتفاء.


أولئك الذين يختارون تجاهل هذه الدعوة سيظلون محاصرين في الألم. أما الذين يتحملون مسؤولية حياتهم، ويبحثون عن المعنى، ويضعون الأهداف، فسيجدون أن الثقل يخف تدريجيًا.


الطريق للخروج من الاكتئاب يكمن في الفعل، وليس بالانغماس في الشعور السلبي تجاه النفس.

إنه رحلة لاكتشاف الذات والنمو، مدفوع بفهم أن الحياة ليست للبقاء فقط، بل للعيش والتقدم. الخيار بيدك أن تبقى في ظل الفراغ، أو أن تخطو نحو نور الهدف.


وتذكر دائمًا مقولتي التي أردّدها دومًا:

“العين لا ترى ما لا يدركه العقل.”


فعندما تنغمس بعقلية المكتئب، عيناك لن تريا النور وإن كان طريقه أمامك.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا نُقدّس الموروث؟

العين لا ترى مالا يدركه العقل

عقلك مُقَيَّد! أتعلم ذلك؟