تبنَّى عقل الإله
نعم، تبنّى عقل الإله. ارتقِ بتفكيرك إلى مستويات لا يصل إليها العقل البشري العادي، وابتعد عن تفاهات البشر، وحدود تفكيرهم، ومعتقداتهم المقيّدة.
لكن لا تفهمني خطأ، فأنا لا أدعوك لأن تضع نفسك في مكانة الإله الخالق عز وجل، حاشا لله، أبدًا! ما أقصده هنا هو أن تتبنى عقلية تُمكنك من النظر إلى البشر ككائنات بسيطة فانية، محدودة الوعي، ذات تصرفات غالبًا ما تكون مدفوعة بالاندفاع والغريزة. هذه العقلية ستجعلك تقف فوق تلك الصراعات البشرية اليومية التي لا تضيف شيئًا لقيمتك أو رؤيتك للحياة، وتنظر لها بعين إلهٍ متفهّم لتلك الكائنات.
لكن دعني أكون واضحًا: الوصول إلى هذا النوع من التفكير ليس سهلًا أبدًا. تبنّي عقل الإله يتطلب الكثير من النضج الفكري، السيطرة على الذات، والتدرّب على رؤية الأمور من منظور مختلف تمامًا عن الذي اعتدنا عليه، والتساؤل وتحدي المعتقدات وما تم غرسه فيك منذ الصغر. إنه مسار صعب، لأن العقل البشري بطبيعته مبرمج على الاستجابة الفورية للمحفزات، سواء بالغضب، أو الدفاع، أو الانتقام. أن تتجاوز هذا وتُعيد برمجة عقلك ليتعامل مع الحياة بعقلية سامية ومستوى وعي أعلى هو تحدٍ كبير.
لكن، دعني أوضح شيئًا مهمًا: تبنّي عقل الإله لا يعني أن تتجاهل الإهانات أو الأذى وكأنها لم تكن. الإهانة والأذية أمران واقعيان، ولا أحد يستطيع تجاهلهما تمامًا. ولكن الفرق يكمن في كيف تتعامل معهما.
العقل البشري البسيط يميل إلى رد الفعل المباشر: الغضب، الانتقام، وربما الرد بالمثل. هذا العقل يرى في الإهانة تهديدًا لكرامته وقيمته، فيندفع للدفاع عنها بأي ثمن. أما إذا تبنّيت عقل الإله، فإنك لن تسمح لهذه المشاعر اللحظية أن تتحكم فيك.
عقل الإله لا يتجاهل الإهانة، ولكنه يفهمها. يدرك أن الإهانة والأذى تصدر من كائن بشري ضعيف، محدود في رؤيته، ومدفوع بغرائزه. هي مجرد إشارات عصبية تمر في قطعة لحم في تجويف عظمي في رأسه تُسمى الدماغ، ثم يُطلقها لسانه، ذلك اللسان الذي سيأكله الدود بعد مماته! لذا، بدلاً من الغضب أو الرد بالمثل، ستتعامل مع الموقف بوعي أعلى، وربما بخطة أكثر ذكاءً وعمقًا. قد تختار الرد إذا كان الرد ضروريًا، لكنك ستفعل ذلك بحكمة وعقلانية، وليس من منطلق الغضب أو الرغبة في الانتقام.
أن تتبنّى عقل الإله يعني أن تنظر للأذى كاختبار، وللإهانة كفرصة لتُظهر قوتك الحقيقية. ليس في الغضب أو الانتقام، بل في قدرتك على التحكم بنفسك، وفي ذكائك في التعامل مع الموقف.
فكّر في الأمر: هل يليق بالإله أن يُجرّ إلى صراعات صغيرة؟ هل يهتز بسبب كلمات خرجت من كائن بشري؟ لا، فهو يتعامل مع كل شيء من منظور الحكمة والرحمة، وربما القوة عند الحاجة، ولكنها قوة متزنة، وليست قوة اندفاعية. ينظر لتلك الكائنات ككتلة من اللحم والعظام مرتبطة بقنوات عصبية تعطيها الأوامر، وسيأتي عليها يوم تفنى وتنتهي.
وأريد أن أوضح نقطة مهمة هنا: “عقل الإله” ليس مفهومًا موجودًا أو أساسًا علميًا أو فلسفيًا، إنه مصطلح اخترعته لأعبّر عن هذا المستوى العالي من التفكير والوعي. الهدف من هذا المصطلح هو تشجيعك على السعي للوصول إلى هذا النضج الفكري الذي يجعلك تتعامل مع الحياة والأشخاص والمواقف الصعبة من منظور أوسع وأعمق.
عقل الإله يبدأ حيث ينتهي العقل البشري: عند التساؤل الجريء، والتجرّد من الخوف. إنه العقل الذي لا يخشى أن يغوص في أعمق المسائل، تلك التي تبدو خارج نطاق الفهم البشري المحدود. للوصول إلى هذا المستوى من التفكير، يجب علينا أن نبدأ بتفكيك كل ما تم تلقيننا إياه منذ الطفولة، كل تلك الأفكار والمعتقدات التي زُرعت في عقولنا دون أن نختارها أو نفهمها. علينا أن نمحو تلك الطبقات التي تراكمت عبر الزمن، ليس لننكرها، بل لنراها على حقيقتها: مجرد قيود وضعتها المجتمعات لتشكيلنا وفق أطرها الخاصة. حين نتحرر من هذه القيود، نفتح أبواب عقل الإله. عقل لا يعرف حدودًا، ولا يخشى التساؤلات التي تربك عقول البشر العاديين.
البشر بطبيعتهم يمتلكون عقولًا محدودة، غالبًا ما تنجرّ وراء كل ما يُقدّم لها دون تحليل أو وعي حقيقي. يصدقون بسهولة ما يُقال لهم، ويتبعون الأفكار الرائجة دون التحقق من صحتها، بل إنهم في كثير من الأحيان يمدحون الآخرين لمجرد أنهم يمتلكون نفوذًا أو لسانًا فصيحًا، دون أن يتساءلوا عن مصداقيتهم أو جوهر ما يقدمونه. هذا السلوك البشري ينبع من رغبتهم الفطرية في الانتماء والبحث عن رموز يقتدون بها، حتى لو كانت هذه الرموز لا تستحق مكانتها.
على النقيض تمامًا، عقل الإله لا يمكن أن يقع في هذا الفخ. فهو عقل يتّسم بالحكمة المطلقة والقدرة على التمييز بين الجوهر والمظهر. عقل الإله لا يتأثر بالشكل الخارجي، ولا ينجرّ وراء تيارات التفكير السطحية، لأنه يدرك القيمة الحقيقية للأشياء ولا يسمح للأوهام البشرية أن تضلّله. بينما البشر يميلون لتقديس ما لا يفهمونه، عقل الإله ينظر بعمق، ويمتلك الوعي الكافي ليميز بين الحقيقة والزيف، بين ما يستحق الاهتمام وما يجب تجاوزه.
الوصول إلى هذه العقلية يتطلب منك أن تعمل على نفسك بعمق. أن تتأمل تصرفاتك اليومية، وأن تسأل نفسك: هل أنا أتصرف بعقل بشري بسيط، أم أنني أرتقي في تفكيري لأرى الأمور من زاوية أكبر؟ ستحتاج إلى صبر، وإلى تدريب عقلك على ألّا يستجيب فورًا لأي استفزاز. ستحتاج إلى فهم أن القيمة الحقيقية لا تأتي من الفوز في كل معركة صغيرة، بل في البقاء ثابتًا وغير متأثر بتفاهات الحياة.
أنا أؤمن أن في كل منا إله، ليس إله بحد ذاته، ولكن نُطفة إلهية زُرعت بك، تركها الخالق عز وجل داخلك ولكن لن تكتشفها إلا عندما تصل إلى هذا الوعي الفكري، وعندما يتجاوز عقلك المستوى البشري الاعتيادي. تبنّى عقل الإله، ليس لتكون فوق الآخرين، بل لتكون فوق نفسك السابقة، ولتصل إلى نسخة منك أكثر نضجًا ووعيًا.
تعليقات
إرسال تعليق