الذكورية البلهاء
نَعيش في صحراءِ البادية…
حيث لا تحكم القوانين المكتوبة؛ بل الأعراف المحفورة في الرمال، ولا يعلو صوت فوق صوت القطيع، ولا يسلم من العقاب من يحاول الخروج عن الطاعة.
هنا، تُجسَّد الحياة الذكورية بأشد صورها فتكاً:
ثقافة، وعُرفاً، وحتى تشريعاً يُرى كيفما اتفق ليخدم هيمنة الرجل.
في هذه الصحراء، تُنحت صورة المرأة على جدار هش من العيب والعار، وتُرى كأنها خُلقت لتكون ظلاً باهتاً لرجل يتباهى برجولته كلما هزم أنوثتها.
هي “ناقصة”، لا في عقلها بل في عيون من رفض أن يراها كاملة.
هي “وصمة”، لا لأنها فعلت، بل لأنها وُجدت في مساحة لا يُسمح فيها للأنثى أن تنمو بلا إذن.
خطأها لا يُغتفر، وزلتها تُكتب عليها نهاية لا تعنيها وحدها بل تعني سمعة العائلة والعشيرة والقبيلة
باسم الشرف والعرض والعار.
نعيش في صحراء البادية، حيث الذكر يحمل عيبه بين يديه ويخبئه خلف صوته المرتفع، لكن المرأة تحمل عيبها على كتفيها، يلاحقها كظل لا يغيب.
إن عصته فهي آثمة، وإن عصاها فهو رجل حر.
هو يخطئ، ثم يُقال “يُصلحه الزمن فالرجل يشيل عيبه”، أما هي فتخطئ مرة، وتُدفن تحت ألف “كان ينبغي”.
هنا يُنسب كل شيء إلى الدين، حتى حين لا يمت له بصلة. يُقطع النص، ويُعطل السياق، ويُمنح الذكر تأويلاً يصعد به فوق الجميع.
أما الأنثى، فتتحمّل عبء الشرف، ويُفسّر صمتها ضعفاً وكلامها وقاحة.
في صحراء البادية، لا تُعلّق الأحكام على الجدران، بل تُعلّق على أجساد النساء، وألسنتهن، ونظراتهن، وحتى على اختيارات لم يُمنحن حقها يوماً.
في صحراء البادية، لا يُطلب من المرأة أن تفهم، بل أن تصمت وتُطيع. لا يُراد لها أن تُعبّر، بل أن تتكيف.
أن تُمارس حياة ليس لها رأي فيها، أن تمشي في طريق رُسم لها سلفاً، بخيوط من خوف ومراوغة وتواطؤ مجتمعي طويل.
هنا، يُربى الذكر على فكرة الامتلاك قبل أن يعرف معنى المسؤولية، ويُلقّن منذ نعومة أظفاره أن الأرض له، والصوت له، والجسد إن لم يكن جسده فهو فتنة.
المرأة تُراقب، تُهدد، تُنتهك باسم الطهر، وتُذل باسم الخوف وتُضرب أحياناً أخرى باسم التأديب.
هنا يُحتقر الضعف فقط حين يكون أنثوياً. ويتم تعظيم العنف فقط حين يكون ذكورياً.
هنا، في صحراء البادية، لا تموت النساء من قلة الأوكسجين، بل من فائض الصمت.
لا تُقتل أجسادهن دائماً، لكن تُقتل أرواحهن كل يوم.
مرة باسم القبيلة، ومرة باسم الغيرة، ومرة باسم الشرف، وألف مرة باسم “ما يليق”.
في صحراء البادية، لا تُرى المرأة كإنسان، بل كأداة تُستخدم: جسد للمتعة، رحم للورثة، يدان للمطبخ، وفم لا يُفتح إلا ليقول: “سمعا وطاعة”.
الرجل لا يُريدها شريكة، بل خادمة بفستان، أنثى تُطعمه، تُرضيه، تُنجب له، ثم تموت في الظل دون أن تزعج رجولته بالسؤال.
لكن الرجل، في غفلته، ظن أن قيمته تزداد كلما أنقص من قيمتها.
فربط رجولته بقدرة السيطرة، لا بعمق الفهم.
المرأة لم تكن يوماً خصمه، بل مرآته التي عجز عن النظر فيها دون أن يرى عقده وانكساراته.
ولعل أقسى ما يمكن أن يواجهه الرجل…
ليس تمرّد المرأة،
بل لحظة يُدرك فيها أنها لم تكن أداته،
بل كانت ميزاناً يفضح اختلاله، ودرساً صامتاً… علمه أن الرجولة لا تُبنى على الطاعة، بل على العدل.
هنا صحراء البادية حيث تعيش الذكورية،
وتموت أرواح الأنوثة عطشاً دون أن ترى الماء.
تعليقات
إرسال تعليق